الجمعة، 12 سبتمبر 2008

أنعام




تدخل الحجرة المسماه مجازا بالحمام وترخى وراءها الستارة .. فتبادرها أمها

- يعنى عندك غير اللى عند الناس

- فى ايه يامه ماتلمى نفسك

- طب اخلصى ياللا ورانا شغل

- ايه ده يا أمه .. هو مافيش ميه ف الجركن كمان

تزيح الام الستارة بقوة ..

- باقولك عندنا شغل انتى مابتفهميش

- طيب يا أمه اللى يشوف كده مايقولش انك لسه والدة من اسبوع

- ماهو لو ماعملتش كده مش هاتلاقى الفول اللى انتى بتحفيه ده كل يوم يا غلاباوية .. أختك لما بتنزل معايا مابتغلبنيش كده

- اه ماهى غادة دى الملبساية بتاعتك .. هو احنا بناكل فول من شوية .. مش عشان الحلوة تتجهز وتتجوز


************

بانتهاء تلك الكلمات كانتا أنعام و إبنتها وفاء خارج تلك البناية المسماة مجازا بالبيت .. فالبيت لا يربو عن العشرين مترا مربعا أى انه خمسة أمتار طول فى أربعة أمتار عرض .. مساحة قد تكون أقل من تراس احد الفيلات المقامة على الناحية الاخرى من الجبل .. ذلك الجبل الذى لجئ إليه والد أنعام منذ سنوات ليتاخذ منه ملجأ له بعد أن يبيع ما معه من خضروات يفترش بهم سوق حكر السكاكينى.. حصل على هذا المكان منذ سنوات بعدما تنازل عن ربحه لمده عام لفتوة المنطقة نظير أن يتركه فى هذا المكان .. ورثته من بعده ابنته أنعام والتى كانت تعول أسرتها بالكامل فبعدما أصيب زوجها تحت عجلات سيارة شرطة المرافق أثناء هربه منها فأدت اصابته إلى بتر يده اليمنى التى كان يسن بها السكاكين لاهل الحى وفشلت كل محاولات أنعام لجلب ماكينة بالكهرباء له من الصندوق الاجتماعى للتنمية ومن يومها وأنعام تعول زوجها وبناتها الاربع والتى وصلت اخرهم إلى الدنيا من أسبوع فقط


***********

وفاء:- الولية حمدية دى عينها يتدب فيها رصاص .. امبارح وأنا باخد منها المنخل عشان سبوع البت .. كانت بتديهونى كده وزى ماتكون بتجز على سنانها

أنعام :- ربنا يكفينا شر عنيها دى وليه عينها وحشة


وصلا الى مكان السوق وقبل أن يفترشا بحاجاتيهما هالهما ما سمعاه .. حيث صك اذنهما صوت انفجار هائل او ماشابه ثم اكتست السماء فجأة باللون البنى

ما ان سمعت أنعام هذا الصوت .. حتى جرت كالمجنونة إلى بيتها الكائن بالدويقة تتبعها ابنتها وصلت الى هناك لتجد لا شئ .. لا وجود لبيتها أو بيت جيرانها .. فقط صخرة هائلة سوت كل البيوت بالارض حتى العمارتين اللتان كانتا يطلق عليهما الاسكان الفاخر واللتان يبلغ عدد طوابقها الخمس طوابق قد سوتا تماما بالارض .. لم تستطع تمالك نفسها من هول ما رأته وغابت عن الوعى


أفاقت فوجدت جميع النسوة من حولها متشحات بالسواد وهول الصدمة واضح فى أعينهم الحمراء الباكية .. تيقنت أنه ليس حلما بل واقعا .. نعم أنها فقدت زوجها وبنتها التى كانت تستعد لدخول المرحلة الثانوية الخريف المقبل وبنتها الاخرى التى كانت تستعد ان تزف الى عريسها الاسبوع المقبل وبنتها ذات السبع أيام

ذهبت لاطلال بيتها تبش بيدها عسى ان تفعل شئيا حيال تلك الصخرة الهائلة الجاثمة على بناتها وزوجها.. كانت بين الحين والاخر تقرب اذنها من الصخرة علها تسمع أنين زوجها أو صرخات طفلتها .. تنادى عليهم ..

- لو كنت اعرف كده كنت اخدتكوا معايا يا حبايبى .. غادة .. يا غادة عريسك مستنيكى يا بنتى .. يارب ليه كده ده انا لسه مافرحتش بنجلاء .. دى كان سبوعها النهارده يا رب .. ليه كده يارب

ظلت خمس أيام هكذا تنادى على بناتها وزوجها .. تكلم الصخرة حينا .. وتكلم الله حينا .. تغيب عن الوعى بالساعات وينقلوها لخيم الايواء .. ثم ما تلبث أن تفيق .. حتى تعود لاطلال بيتها مرة أخرى إلى أن تمت إزالة جزء من الانقاض بعد سبعة أيام وأخرجت بنتها الصغرى جثة ليس لها ملامح .. استدل عليها من المنخل الذى كانت نائمة فيه .. أخرجت بنتها الثانية بعد خمس عشر يوما مرتديه زيها المدرسى الجديد حيث انهار البيت وهى تجرب زيها الجديد حيث كانت تنوى البنت تضييق المريلة بعض الشئ على غير رضى امها .. فمبجرد أن خرجت أمها فى الصباح الباكر حتى استيقظت هى وبدأت تضيق الجاكت مستخدمة الدبابيس

***********

كانت الكارثة الحقيقية بالنسبة لها فى إعلان الحكومة عن انتهاء اعمال إزالة الانقاض وتصريحات المسئولين المتكررة بان جميع الجثث قد خرجت من تحت الانقاض .. كاد يجن جنونها .. فلن يهدأ لهذه المرأة جفنا الا حينما تخرج جثة زوجها وبنتها .. ولن تتمكن بنتها وفاء من إخبار أمها بالخبر الذى ظلت تخفيه عليها .. بان الحكومة لم تعط لهم مسكنا وأن المسئولين أدعوا ان وفاء وأمها لم يقنطنا يوما بالدويقة وأنها تحتال للحصول على شقة



أحمد شاهين

الأربعاء، 3 سبتمبر 2008

هشام




كانت المرة الأولى التى يُقبّل فيها "هشام" يد أبيه وأمه قُبيّل الخروج للسفر إلى القرية المجاورة لهم والتى يقبع بها المعهد الديني الذى يدرس فيه .. ولكن الحقيقة .. أنه لم يخرج – هذة المرة- فى طلب العلم كما يعتقد أبواه .. ولكنه خرج طلبًا للرزق.

فبمجرد غروبه عن الأعين ركب سيارّة كى تقله إلى العاصمة.. وتحديدا لأرض المطار..حيث فى انتظاره هناك "السمسار" ..هذا الذى لجأ إليه هشام كى يدبر له فرصة خروج من تلك البلد..ولكن ولأن هشام لازال طالبًا بعد.. فلم يستطع ذلك الفتى الذى لم يكمل الثمانية عشر ربيعًا- قل خريفًا إن شئت- لم يستطع تدبير كافة متطلبات ذلك السمسار.. فالمال الذى جمعه كان قد جمعه من إقتطاعه لجزء من مصروفه الشهرى الذى يعطيه والده إياه .. فكانت الإجابة من قِبل السمسار واضحةً و صريحة "خلاص يا هشام .. على قد لحافك.. مد رجليك".

وصل "هشام" إلى أرض المطار..شعر برهبة و غربة شديدين سرعان ما تبدلا برؤية السمسار ..الذى رحب بهشام ترحيبًا حارًا فأطمان الفتى أكثر وشعر بطمأنينة.. وفرحة قرب تحقيق الحلم الذى طالما حَلُم به..ولكنه سرعان –أيضًا- ماتبدل حاله.. بعدما عرف بطريقه خروجه من أرض مصر .. ولكنه لم يمانع كثيرًا رغبًا منه فى تحقيق حلمه المنشود مهما كانت العواقب.

وبالفعل بدأت رحلة الرشاوى تمر على أمناء الشرطة الصغار المكلفين بتفتيش المغادرين و رؤية جوازات سفرهم..وصولا إلى الظباط المكلفين بــ "التأشير" على جوازات السفر..ثم وصلا إلى مِهبط الطائرات؛..كانت الطائرة التابعة للخطوط الفرنسية فى أوّج زينتها فى إستقبال ضيوفها وكان الضوء الخافت والدفء المنبعثا منها يجعلا قدميك تخطوان تلقائيًا نحو سُلم الطائرة.. ولكن.. و قبل أن تنجذب قدما هشام إلى سُلم الطائرة..جذبه السمسار من يده و ذكرّه بالمثل الذى ردده على سمعه فى القرية.. ولكنه اكتفى تلك المرة بقولة " على قد لحافك " فقط .. فهز هشام رأسه فى ذل إيماءً منه على حفظه للشطر الثانى .


مشيا قليلاً .. ثم وصلا إلى المكان الذى سيجلس فيه "هشام" مده الثلاث ساعات القادمة – القاتمة- فسيجلس ذلك الفتى فى تجويف عجل الطائرة............تجويف.....عجل.......الطائرة.


جلس هشام فى ذلك التجويف كالقطة تماماً.. بعدها ودَّعه السمسار وقبَّله فى وِجنتيه وبدأ ترتسم فى مقلتيه دمعتين من دموع التماسيح الذى إعتاد أن يودع بهما ضحاياه.

غاب السمسار عن أعين هشام..وسُحب سُلم الطائرة..إيذانًا بإقلاع الطائرة..أمسك هشام ببروز فى التجويف..كان قد أوصاه السمسار قبل أن يغادر بإمساكه إيَّاه أثناء إقلاع الطائرة.. وأَقلعت الطائرة..وبدأت العجلات ف الدخول للتجويف..ولكنها كانت أسرع من ردة فعل هشام .. فلم يستطع أن يسحب رجليه من المكان الذى سوف تحتله تلك العجلات الضخمة.. ونزلت العجلات وإستقرت على جزء من رجله.. ف البدء كان الألم قويًا..ولكنه أخذ يُصبّر و يُمنّى نفسه بقرب الوصول .. إلى أن صار الألم عاديًا – أو إعتياديًا- ساعده على ذلك شعوره المتنامى بالبرودة..والذى أخذ يُخدّر أوصالة.. فلم يعد يشعر بالألم جزئيًا.


مضت الثلاث ساعات وكأنهم دهر ..تَأهبت بعدها الطائرة للهبوط.. فبدأت العجلات من التحرك من على رجليه .. فظن أنه الراحة من ذاك الألم والخلاص من تلك الورطة .. ولكنه كان الخلاص..فلم يستطع هذا الفتى بجسده النحيل أن يُقاوم فرق الضغط الناتج من الإرتفاع الشاهق للطائرة .. ولم يستطع مقاومة العاصفة الثلجية التى وجدها بإنتظاره بمجرد فتح العجلات..فسرعان ماتجمدت أطرافه.. وفَقَدَ "هشام" إحكام قبضته من البروز– والذى كان بمثابة قارب النجاة بالنسبة له- فوجد نفسه يسقط من إرتفاعٍ شاهقٍ جدًا ..قاس ذلك الإرتفاع بشريط ذاكرته الذى مر عليه كله أثناء سقوطه.....فتذكر فتاته التى يحبها..كم حذرته من السفر والإنسياق خلف أحلامه..ولكنه كان يَصُدّها فى تجهم كل مرة..ثم ما يلبث أن يصفى لها مرة أخرى .. ويحكى له كيف أن حياته وحياتها سيتغيريان بعد تلك الرحلة..يحكى لها عن الأثاث الفاخر الذى سيجلبه معه من فرنسا كى تُباهى به بنات القرية جميعًا.....؛ تذكر أباه ومعلمينه..كم كانوا فى غِلظة معه.. ولكنه سامحهم جمعيا معرفةً منه أن تلك القسوة لم تكن إلا لحرصهم على مصلحته هو الشخصية ليس إلا..تذكر أيضًا ..مصر وطنه.. وأصحابه.. كم كانوا أيضا يعاملوه بقسوة ولكنه لم يجد بدًا من مسامحتهم معرفةً منه بمقدار الحب الكامن فى قلوبهم رغم تلك القسوة الظاهرة فى المعاملة.....وتذكر أخيرا ...مصر الأشخاص ...تذكركل المتسببين فى موته ..تذكر السمسار.. تذكر أولاد الحرام.. تذكر اللصوص الذين كانوا يرغدوا فى النعيم .. فى اللحظة التى كان ينفذ فيها مصروفه فينام بدون عشاء أملاً منه فى الغد الذى كان يقضى معظمه- بعد الدراسة- إما فى فرن أو فى ورشة.. طلباً للرزق....؛ تذكر النصابين الذين هم أكبر من السمسار.. النصابون الذين يأتون الشعب من دبرهم جهاراً نهاراً.. ثم يهرعون لمياه النيل للشرب منها بعد أن يكونوا قد طهروا عضوهم فى مياهه..تذكر هؤلاء ولكنه لم يجد بدًا من الدعاء عليهم وهو يسقط من الطائرة .. فليس فى يده – الآن - سوى الدعاء ..ولم يرقْ قلبه ولو للحظة فى إعلان الصفح عنهم أو مسامحتهم ..ليفيق من ذلك كله على ارتطامه بالأرض..ليجدوه الناس بعد ذلك جثة مهشمة .. لم يُستدل على هويتها إلا من بطاقة تحقيق الشخصية المدون فيها اسمه ..بطاقة تحقيق الشخصية التى رسم الدم عليها بلونه الأحمر القانى دوائر حول نسر شعار الجمهورية.




أحمد شاهين...

الإسماعيلية فى...

27 / 1 / 2007






· القصة حقيقة .. بطلها الشهيد أحمد عبد الرسول أبو شادى