الأربعاء، 3 سبتمبر 2008

هشام




كانت المرة الأولى التى يُقبّل فيها "هشام" يد أبيه وأمه قُبيّل الخروج للسفر إلى القرية المجاورة لهم والتى يقبع بها المعهد الديني الذى يدرس فيه .. ولكن الحقيقة .. أنه لم يخرج – هذة المرة- فى طلب العلم كما يعتقد أبواه .. ولكنه خرج طلبًا للرزق.

فبمجرد غروبه عن الأعين ركب سيارّة كى تقله إلى العاصمة.. وتحديدا لأرض المطار..حيث فى انتظاره هناك "السمسار" ..هذا الذى لجأ إليه هشام كى يدبر له فرصة خروج من تلك البلد..ولكن ولأن هشام لازال طالبًا بعد.. فلم يستطع ذلك الفتى الذى لم يكمل الثمانية عشر ربيعًا- قل خريفًا إن شئت- لم يستطع تدبير كافة متطلبات ذلك السمسار.. فالمال الذى جمعه كان قد جمعه من إقتطاعه لجزء من مصروفه الشهرى الذى يعطيه والده إياه .. فكانت الإجابة من قِبل السمسار واضحةً و صريحة "خلاص يا هشام .. على قد لحافك.. مد رجليك".

وصل "هشام" إلى أرض المطار..شعر برهبة و غربة شديدين سرعان ما تبدلا برؤية السمسار ..الذى رحب بهشام ترحيبًا حارًا فأطمان الفتى أكثر وشعر بطمأنينة.. وفرحة قرب تحقيق الحلم الذى طالما حَلُم به..ولكنه سرعان –أيضًا- ماتبدل حاله.. بعدما عرف بطريقه خروجه من أرض مصر .. ولكنه لم يمانع كثيرًا رغبًا منه فى تحقيق حلمه المنشود مهما كانت العواقب.

وبالفعل بدأت رحلة الرشاوى تمر على أمناء الشرطة الصغار المكلفين بتفتيش المغادرين و رؤية جوازات سفرهم..وصولا إلى الظباط المكلفين بــ "التأشير" على جوازات السفر..ثم وصلا إلى مِهبط الطائرات؛..كانت الطائرة التابعة للخطوط الفرنسية فى أوّج زينتها فى إستقبال ضيوفها وكان الضوء الخافت والدفء المنبعثا منها يجعلا قدميك تخطوان تلقائيًا نحو سُلم الطائرة.. ولكن.. و قبل أن تنجذب قدما هشام إلى سُلم الطائرة..جذبه السمسار من يده و ذكرّه بالمثل الذى ردده على سمعه فى القرية.. ولكنه اكتفى تلك المرة بقولة " على قد لحافك " فقط .. فهز هشام رأسه فى ذل إيماءً منه على حفظه للشطر الثانى .


مشيا قليلاً .. ثم وصلا إلى المكان الذى سيجلس فيه "هشام" مده الثلاث ساعات القادمة – القاتمة- فسيجلس ذلك الفتى فى تجويف عجل الطائرة............تجويف.....عجل.......الطائرة.


جلس هشام فى ذلك التجويف كالقطة تماماً.. بعدها ودَّعه السمسار وقبَّله فى وِجنتيه وبدأ ترتسم فى مقلتيه دمعتين من دموع التماسيح الذى إعتاد أن يودع بهما ضحاياه.

غاب السمسار عن أعين هشام..وسُحب سُلم الطائرة..إيذانًا بإقلاع الطائرة..أمسك هشام ببروز فى التجويف..كان قد أوصاه السمسار قبل أن يغادر بإمساكه إيَّاه أثناء إقلاع الطائرة.. وأَقلعت الطائرة..وبدأت العجلات ف الدخول للتجويف..ولكنها كانت أسرع من ردة فعل هشام .. فلم يستطع أن يسحب رجليه من المكان الذى سوف تحتله تلك العجلات الضخمة.. ونزلت العجلات وإستقرت على جزء من رجله.. ف البدء كان الألم قويًا..ولكنه أخذ يُصبّر و يُمنّى نفسه بقرب الوصول .. إلى أن صار الألم عاديًا – أو إعتياديًا- ساعده على ذلك شعوره المتنامى بالبرودة..والذى أخذ يُخدّر أوصالة.. فلم يعد يشعر بالألم جزئيًا.


مضت الثلاث ساعات وكأنهم دهر ..تَأهبت بعدها الطائرة للهبوط.. فبدأت العجلات من التحرك من على رجليه .. فظن أنه الراحة من ذاك الألم والخلاص من تلك الورطة .. ولكنه كان الخلاص..فلم يستطع هذا الفتى بجسده النحيل أن يُقاوم فرق الضغط الناتج من الإرتفاع الشاهق للطائرة .. ولم يستطع مقاومة العاصفة الثلجية التى وجدها بإنتظاره بمجرد فتح العجلات..فسرعان ماتجمدت أطرافه.. وفَقَدَ "هشام" إحكام قبضته من البروز– والذى كان بمثابة قارب النجاة بالنسبة له- فوجد نفسه يسقط من إرتفاعٍ شاهقٍ جدًا ..قاس ذلك الإرتفاع بشريط ذاكرته الذى مر عليه كله أثناء سقوطه.....فتذكر فتاته التى يحبها..كم حذرته من السفر والإنسياق خلف أحلامه..ولكنه كان يَصُدّها فى تجهم كل مرة..ثم ما يلبث أن يصفى لها مرة أخرى .. ويحكى له كيف أن حياته وحياتها سيتغيريان بعد تلك الرحلة..يحكى لها عن الأثاث الفاخر الذى سيجلبه معه من فرنسا كى تُباهى به بنات القرية جميعًا.....؛ تذكر أباه ومعلمينه..كم كانوا فى غِلظة معه.. ولكنه سامحهم جمعيا معرفةً منه أن تلك القسوة لم تكن إلا لحرصهم على مصلحته هو الشخصية ليس إلا..تذكر أيضًا ..مصر وطنه.. وأصحابه.. كم كانوا أيضا يعاملوه بقسوة ولكنه لم يجد بدًا من مسامحتهم معرفةً منه بمقدار الحب الكامن فى قلوبهم رغم تلك القسوة الظاهرة فى المعاملة.....وتذكر أخيرا ...مصر الأشخاص ...تذكركل المتسببين فى موته ..تذكر السمسار.. تذكر أولاد الحرام.. تذكر اللصوص الذين كانوا يرغدوا فى النعيم .. فى اللحظة التى كان ينفذ فيها مصروفه فينام بدون عشاء أملاً منه فى الغد الذى كان يقضى معظمه- بعد الدراسة- إما فى فرن أو فى ورشة.. طلباً للرزق....؛ تذكر النصابين الذين هم أكبر من السمسار.. النصابون الذين يأتون الشعب من دبرهم جهاراً نهاراً.. ثم يهرعون لمياه النيل للشرب منها بعد أن يكونوا قد طهروا عضوهم فى مياهه..تذكر هؤلاء ولكنه لم يجد بدًا من الدعاء عليهم وهو يسقط من الطائرة .. فليس فى يده – الآن - سوى الدعاء ..ولم يرقْ قلبه ولو للحظة فى إعلان الصفح عنهم أو مسامحتهم ..ليفيق من ذلك كله على ارتطامه بالأرض..ليجدوه الناس بعد ذلك جثة مهشمة .. لم يُستدل على هويتها إلا من بطاقة تحقيق الشخصية المدون فيها اسمه ..بطاقة تحقيق الشخصية التى رسم الدم عليها بلونه الأحمر القانى دوائر حول نسر شعار الجمهورية.




أحمد شاهين...

الإسماعيلية فى...

27 / 1 / 2007






· القصة حقيقة .. بطلها الشهيد أحمد عبد الرسول أبو شادى



هناك 23 تعليقًا:

Mostafa يقول...

m3 enny 2arethalak 2bl kda lw tftkr bass kol ma b2raha bb2a 3ayez awll3 f nafsy.....allah ynwar yabo shaheen

Abu Shahin يقول...

أيوه فعلا انت قريتها قبل كده

بس موضوع كل اما تقراها بتبقى عايز تولع ف نفسك .. وبعديها الله ينور يا ابو شاهين
وعليك يا كبير

Amgad يقول...

مش ممكن يا ابو حميد
القصة فظيعة
واسلوبك هايل اخر حاجه بجد
اول مرة اعرف ان في تهريب في الطيارات
زي مفي في السفن
بس فعلا انا مصدوم من القصة
ومصدوم من روعتك فيها
وفعلا عايز اقراها مرة واتنين وخمسة
وكل مرة هاجي اقراها هسيبلك كومنت
لحد مزهق منها
خالص تقديري وتحياتي

Abu Shahin يقول...

يا خبر ابيض يا أمجد
ربنا يخليك يارب
انا مبسوط انها عجبتك
وبجد انا ماستاهلش نص الكلام الجميل اللى انت كاتبه ده
وفى فعلا تهريب ف الطيارات
للاسف
ربنا يرحمه ويرحمنا جميعا

وأكيد كل كومنت هاتسيبه هايبقى وسام كبير هاعتز بيه

شكرا يا امجد

Amgad يقول...

تاني قرايه
يا حبيبي انت تستاهل اكتر من كده
هو انت شايف انو شهيد علي اي اساس؟
طلب صغنون
شيل التاكيد علي التعليق ملوش لازمة
-الاعدادات=sitting
2-التعليقات=comments
3-التاكيد على الكلمة
verfy the ward>
شيل الصح

Abu Shahin يقول...

والله انت اللى انسان جميل يا أمجد

وبعدين انا شايف ان احنا كلنا شهدا وكلنا ان شاء الله هاندخل الجنة عشان احنا عايشين ف الزمن ده

وعلى فكرة سمعت كلامك ولغيت التاكيد
شكرا يا امجد

Noha El-arabi يقول...

????????
ها؟
مش ممكن
انا اتصدمت فعلا
ايه التفاصيل ده
الجملة الاخيرة، دوائر و حول النسر
تصفيق و الله يا احمد علي القصة ده
بداية اكثر من موفقة
بداية هايلة
احيييييييييييييييك

Abu Shahin يقول...

ربنا يخليكى يا نهى
شكرا على اعجابك بالقصة
شكرا اوى
وانا اللى احيكيى

Heba يقول...

فعلا واقع خيالى مؤلم
انا بردو قرياها قبل كده بس عجبتنى

وصفك للمشهد اكتر من رائع يا شاهين وعيشتنا اللحظه اوى زى ما تكون كنت معاه بالظبط

شادي أصلان يقول...

اولا مبروك علي المدنة
ثانيا للأسف واقعنا يحمل العديد من هذه القصص المؤلمة .
.
بس بغض النظر عن واقعية القصة فبجد اسلوبك بجد مختلف
تحياتي

Abu Shahin يقول...

@هبة
غلطتى انى قريتكوا القصة قبل ماتنزل
:)
ميرسى ليكى يا هبة

Abu Shahin يقول...

أبو أصلان

للاسف فعلا واقعنا خيالى مؤلم

شكرا على ذوقك يا معلم

نورتنى بجد

كـــيــــــــارا يقول...

ممممممممم

بجد ايه ده فعلا مكنتش متوقعه ده

.فسرعان ماتجمدت أطراف
بجد انا مش قادره اوصف كم الحزن اللي قريته بين سطورك

ربنا يرحمه ومنهم لله اللي كانو السبب

كل سنه وانت طيب

صباح الصباح يقول...

مع لن القصة بها كم من المرارة بشدة.. الا ان البلد هى السبب فى كل ما يحدث للشباب.. ابواب الامل اغلقوها امامهم فماذا بيدهم ليفعلوا..

اسلوب جذاب فى الصياغة ووصف المشاعر الا ان لى تحفظ صغير اننا لا نستطيع فى الوقت الحالى ان نامن احد على مشاعرنا ولا ان نودعهم ثقتنا بسهولة

كل عام وانت بالف خير

سميرة يقول...

اولاً: كل سنة وانت طيب ورمضان كريم
ثانياً:القصة اسلوبها جميل اوي ووجعتني بجد ، مع اني سمعت عنها لكن اسلوبك وجعني ، ومش عارفة اقول ايه ، يا ترى مين الغلطان الشاب ذو المشاعر الخضراء البكر ، مع احلامه البسيطة ولا البلد اللي بنحبها بس في نفس الوقت نفسنا نخرج منهالانناخلاص اتخنقنا، بجد انا محتارة.
تحياتي
:))

Abu Shahin يقول...

صباح الصباح
اكيد محمد لو كان لقى اى حاجة تسد جوعه حتى ف بلده ماكانش هرب ف تجويف عجل الطيارة
هانقول ايه بقى
بس امتى الناس تصحى

ومتشكر جدا على اثنائك الجميل

نورت المدونة

Abu Shahin يقول...

سميرة
كل سنة وانتى طيبة والله اكرم

انا مبسوط ان القصة وجعت - انا اسف - بس عشان نحس بالانحدار اللى وصلنا ليه
و ف الحالات اللى زى دى ماتقدريش تحددى بالظبط مين الغلطان .. لما تبقى العشوائية هى نظام البلد .. .اكيد مش هانعرف نحدد مين الغلطان

تحياتى

zOzO يقول...

كل سنه وانت طيب الاول
القصه : اسلوبها حلو
تناولت الموضوع باسلوب شيق
هو اه موجع
بس للاسف دي الحقيقه
تحياتي للابداعك

دار العين يقول...

على مدونة دار العين للنشر
_ جمال الغيطاني في العين
_ حديث علاء الأسواني عن مشكلة انفصال المثقف عن الواقع
_ حدوتة من كتاب " المرأة والحدوتة "
http://ainpublish.blogspot.com/

Unknown يقول...

اية رأيك تشرفنا بالتواجد معنا يوم السبت؟ 13/9 هنتقابل فى مستشفى ابو الريش الساعه 3 عصرا للتبرع للاطفال
؟؟؟
وباقى التفاصيل عندى بالمدونة

Abu Shahin يقول...

وانتى طيبة
وشكرا على اثنائك على القصة
وفعلا هو ده الواقع المؤلم
تحياتى لزيارتك مدونتى

Abu Shahin يقول...

دار العين ونهر الحب

شكرا على المعلومات

أسماء علي يقول...

أعرف القصة الواقعية حق المعرفة ..

..

لكن لكي أعبر عن احساسي بما كتبته

أخبرك أن الدموع تملئ عيناي الآن ..